سورة يونس - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


{وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)}.
التفسير:
{وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ}.
الشأن: الحال المتلبسة بالإنسان، وهو يعالج أمرا من الأمور.
تفيضون فيه: أي تتداولونه بينكم، ويأخذ كلّ منكم بطرف منه، فيكثر الحديث ويفيض.
يعزب: يغيب، ويبعد.
فى هذه الآية: عرض لبعض سلطان اللّه، ونفاذ قدرتا وعلمه.. وأنه- سبحانه- محيط بكل شيء علما.. وأن ما يقع من الضالين والمكذبين، هو في علم اللّه، يحصيه عليهم، ويجزيهم بما هم أهل له من بلاء ونكال.
وقد بدأت الآية بخطاب النبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه: {وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ}.
أي أنه صلوات اللّه وسلامه عليه، وما يعمل من عمل، مراقب من اللّه، ومسجل عليه كلّ ما يعمل، سواء أكان هذا العمل في شأن من شئونه الخاصة، أو في مجال الرسالة المبعوث بها، كتلاوة القرآن على الناس، وإسماعهم كلمات اللّه المنزلة عليه.
وذلك، حتى لا يظن المشركون والكافرون أنهم وحدهم هم الذين تحصى عليهم أعمالهم.. بل اللّه سبحانه وتعالى مطلع على الناس جميعا، وعالم بكل ما يعملون من خير أو شر.
وفى ذكر القرآن وتلاوة النبي له، إشارة إلى أنه الشأن الغالب على النبي- صلى اللّه عليه وسلم- وأن القرآن وتلاوة القرآن هو شغله وعمله، أما المشركون والضالون، فلهم شغل ولهم عمل، ولكنه شغل في ضلال، وعمل في باطل.
وفى قوله تعالى: {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} هو تعميم بعد تخصيص.. إذ ليس النبىّ وحده هو الذي يرقب اللّه تعالى أعماله، بل الناس جميعا مراقبون، لا يغيب من عملهم شيء عن علم اللّه.
وفى قوله تعالى: {وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ} هو إشارة إلى أن علم اللّه محيط بكل شىء، فليست هناك {مثقال ذرة} أي قدر ذرة ووزنها وثقلها- وهى ما هى في الصغر- سواء أكانت في الأرض أو في السماء، وسواء أكان ما هو أصغر من الذرة أو أكبر منها- إلا وهى في كتاب مبين عند اللّه.. قد علمها وأحصاها.
وفى تسلّط النفي في قوله تعالى: {وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ} على {إلّا} في قوله سبحانه: {إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ} في هذا ما يفيد أن معنى يعزب، هو يغيب أو يبعد، وبهذا يمكن الجمع بين ما النافية، وإلا ويكون المعنى هكذا:- وما يغيب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين-.
والسؤال هنا: كيف يغيب أو يبعد عن اللّه شى ء؟
والجواب: أن هذا الغائب البعيد، هو بالإضافة إلينا، بمعنى أن ما يقع في وهم الواهمين، وتصور المتصورين، أنه بعيد في أغوار الأرض، أو في أعماق أنفسنا، هو بعيد عن اللّه- فذلك تصور خاطئ، وفهم فاسد، لأنه في كتاب مبين عند اللّه، وهذا يعنى أنه وقع في علم اللّه أولا، ثم أودع في هذا الكتاب المبين عند اللّه، ثانيا.. فهو واقع في علم اللّه، ومسجّل في كتاب عند اللّه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ} [75: النمل].
قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
أولياء اللّه: هم الذين يجعلون ولاءهم للّه وحده، فهم أولياء اللّه، واللّه سبحانه وتعالى وليّهم.. وقد بينهم اللّه سبحانه في قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ}.
فلا ولاية بغير الإيمان باللّه.. إذ الولاء حب، وطاعة، وعبادة.. ولا حب إلا بعد معرفة، ثم إيمان.. ثم طاعة وعبادة.
ولا تتحقق الولاية للّه إلا بمراقبته، واتقاء محارمه، والتوكل عليه، والرجاء فيه، وقطع كل رغبة فيما سواه.. وذلك هو الذي يحقق التقوى، التي هى ثمرة الأعمال الصالحة.. فهؤلاء الأولياء هم الذين تعلقوا باللّه، فجذبهم اللّه إليه، وأنزلهم منازل رحمته ورضوانه.. فأمنوا في جنابه من كل خوف على متوقع، أو حزن على فائت {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
فمن اتخذ اللّه وليا له، اتخذه اللّه وليا، ومن أحب اللّه أحبه اللّه، كما في قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [54: المائدة].. ومن أحبه اللّه فلا تسأل عما هو فيه من غبطة وسرور، مما يتنزل عليه من ربه من سكينة، وما يفاض عليه من نفحات وبركات.
يقول رسول اللّه صلوات اللّه وسلامه عليه فيما رواه البخاري: {ما يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، وإن سألنى أعطيته، وإن استعاذنى لأعيذنّه}.
فالطاعات، والمداومة عليها، هى التي تقرب العبد من ربه، فإذا قرب منه كان في جناب حماه، وعلى بساط رحمته، لا يخاف إذا خاف الناس، ولا يجزع إذا جزع الناس. ولا يبيت على همّ إذا بات الناس على هموم: {أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
وفى تعدية الخوف بحرف الجر (على)، إشارة إلى أن الخوف إنما يكون من توقعات المستقبل، فهو مقبل لا مدبر.. ويكون المعنى لا خوف مقبل عليهم.
وفى التعبير عن الإيمان بالماضي {الَّذِينَ آمَنُوا} وعن التقوى بالمستقبل {وَكانُوا يَتَّقُونَ} إشارة إلى أن الإيمان يسبق التقوى، التي تقوم على اتقاء محارم اللّه، لأن هذا الاتقاء هو من معطيات الإيمان باللّه.
وقد دخل فعل التقوى في حيز الفعل الماضي {كان}.
{وَكانُوا يَتَّقُونَ} فكانت التقوى أيضا مما حدث من هؤلاء المتقين، كما حدث منهم الإيمان من قبل، وإلا ما استحقوا صفة الأولياء، أولياء اللّه.. فالإيمان، ثم التقوى، ثم الولاية، يجىء بعضها إثر بعض، على هذا الترتيب.. فلا ولاية بغير التقوى، ولا تقوى إلا بعد الإيمان- وفى قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ، لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
بيان لتلك المنن العظيمة التي امتن اللّه بها على أوليائه- جعلنا اللّه منهم- فجعل البشريات المسعدة برضا اللّه ورضوانه، تتنزل عليهم، بما يكشف لهم منازلهم عند اللّه، وما سيلقون في نعيم جناته، من كرامة وتكريم.
والبشريات التي يبشّر بها أولياء اللّه في الدنيا، كثيرة، منها ذكرهم في الناس، بالكلمة الطيبة تقال فيهم، لحسن سيرتهم، واستقامة طريقهم، وحفظ جوارحهم من المحارم والمظالم.. إذ لا شك أن رضا الناس عن إنسان، وحسن ظنهم به، هو دليل على أنه من أهل الخير والتوفيق، وأنه على طريق الاستقامة والتقوى.. ومنها ما يملأ اللّه به قلوبهم من رضا وسكينة، في السراء والضراء على السواء.. بل إن كثيرا منهم ليجد فيما يبتليه اللّه به من ضر، هو أمانة عنده للّه، وأن أداء هذه الأمانة للّه هو الصبر عليها، والرضا بها، وأن الضجر بالبلاء، والجزع منه، هو خيانة لتلك الأمانة.
روى أن سعد بن أبى وقاص رضى اللّه عنه.. كفّ بصره في آخر حياته، وكان مستجاب الدعوة، فقيل له: ادع اللّه وأنت مستجاب الدعوة عنده أن يرد عليك بصرك؟ فأبى أن يدعو اللّه بردّ بصره إليه.. ولو دعا لاستجاب اللّه له، ولكنه وجد في هذا العمى مشيئة اللّه فيه، وفى الدعاء بدفع هذا العمى عدم استسلام لهذه المشيئة، وعدم رضا بها!! وهكذا أولياء اللّه.. {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
ومن البشريات التي يبشّر بها أولياء اللّه في الدنيا، أنهم حين يشرفون على الموت، لا يجدون له ما يجد غيرهم من كرب وجزع. بل يستقبلونه في غبطة ورضا، وذلك لما يرون في ساعة الاحتضار مما لهم عند اللّه من فضل وإحسان.. وهذا ما يشهد له قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ} [30- 31] فصلت.
وأما بشريات أولياء اللّه في الآخرة، فكثيرة، تبدأ من مغادرتهم هذه الدنيا، إلى يوم القيامة، وما بعد يوم القيامة، وهم في روضات الجنات يحبرون.. ففى كل مرحلة من مراحل هذه الرحلة المسعدة، تطلع عليهم البشريات التي تزفّهم إلى الجنة، كما تزف العروس في موكب من الفرح والبهجة.. وفى هذا يقول اللّه تبارك وتعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [12: الحديد].


{وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)}.
التفسير:
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، أن الآيات السابقة عليها قد ذكرت أولياء اللّه، وما أعدّ لهم ربهم من ثواب كريم، وأجر عظيم.
وهذه الآيات تعرض أعداء اللّه، والمطرودين من رحمته، وهم الذين أشركوا باللّه، واتخذوا من دونه أولياء يعبدونهم من دونه.
وقوله تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} هو عزاء للنبى الكريم، مما يلقى من قومه من ضرّ وأذى.. وإن أشد ما كان يؤذى النبىّ ويسوؤه، هو خلاف قومه عليه، وتنكّبهم عن طريق الحق الذي يدعوهم إليه، وتخبطهم في ظلمات الضلال والشرك.. فهو رءوف بهم، رحيم عليهم، حريص على هدايتهم، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى فيه: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} [128: التوبة] ولهذا، فقد كانت آيات القرآن الكريم تتنزل عليه من ربه، تواسيه وتخفف ما به من حزن وألم.. كقوله تعالى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ} [8: فاطر].
وقوله سبحانه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} [56: القصص].. وقوله: {لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [3: الشعراء] فقوله تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} هو مما كان ينزل على النبي من آيات ربه، من عزاء ومواساة، لما كان يلقى من قومه من عنت وعناد، ولما كان يقع في نفسه من حزن عليهم أن يحرموا هذا الخير الذي ساقه اللّه سبحانه وتعالى على يديه إليهم.
والقول الذي كان يحزن النبي، هو شركهم باللّه.. وقولهم: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} كما سيجيئ في الآية الكريمة بعد هذا.
وقوله تعالى: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} هو تثبيت للنبى، وطمأنينة لقلبه، وأن خلاف قومه عليه لا يضره، لأنه مؤيد من ربه، رب العزة التي تذلّ لها الجبابرة، فالعزة كلها للّه، وما سواه ذليل مهين.
وهو سبحانه {سميع} لما يقول هؤلاء المشركون في اللّه من زور وبهتان.
{عليم} بما تموج به صدورهم من شرك وضلال. وسيجزيهم بما كسبوا.
وقوله تعالى: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}.
الخرص: خرص الشيء تقديره جزافا، بالظن والتخمين، كمن ينظر إلى شيىء فيقدر كيله أو وزنه بالنظر إليه دون معيار.
والآية الكريمة تعرض بعض مظاهر سلطان اللّه وقدرته، وأنه- سبحانه- له ملك السموات والأرض ومن فيهن. فهو وحده الجدير بأن يمجّد ويعبد.
وأما الذين يتبعهم المشركون ويدعونهم آلهة من دون اللّه ويجعلونهم شركاء له- فإنما هم من واردات باطلهم وضلالهم، ومن مواليد ظنونهم وأوهامهم. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}.
فهذا المعتقد الذي يعتقدونه في معبوداتهم، وتلك المشاعر التي تشدّهم إليها إنما هى مما يولّده الجهل ويصوره الضلال.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}.
وذلك أيضا هو بعض مظاهر قدرة اللّه، وآثار رحمته في عباده، وليس لما يعبد المشركون من آلهة صورتها لهم الظنون والأوهام- شيء من هذا الذي خلق للّه، وما أفاض على عباده من نعم.
فهو- سبحانه- الذي جعل الليل سكنا، يلبس الكائنات الحية، ويهيىء لها فرصة للراحة من سعيها في النهار، حتى تجدد نشاطها، وتستعيد قوتها، لتستقبل السعى والعمل في يوم جديد، بنشاط متجدد.
وفى قوله تعالى {وَالنَّهارَ مُبْصِراً} إشارة إلى أن ضوء النهار، هو الذي يعطى العيون قدرتها على الإبصار.. ولو لا هذا الضوء لما كانت العيون مبصرة، فهو إذن المبصر، لا العيون، لأنه هو سبب أول، وهى سبب ثان.. ولهذا فهو أولى بالذكر منها في هذا المقام.
ومن جهة أخرى فإن الضوء هو الذي ينتقل إلى حدقة العين، ويقع عليها، حاملا معه صورة المرئيات إليها.. تماما كما تقع المرئيات على المرايا.
وإذن فالنهار- أي الضوء- هو المبصر، لأنه هو الذي يبصر المرئيات قبل العين، ثم ينقلها إليها.. فهو العين التي تكشف هذا الوجود للعيون أولا، ثم تنقله إليها ثانيا. وفى هذا ما يكشف عن بعض قدرة اللّه كما ينطق بإعجاز كلماته.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} إلفات إلى تلك الظواهر المتجلّية من قدرة اللّه سبحانه.. وأنها آيات دالّة على قدرة اللّه، وعلى تفرده بالوجود.. وأنه لن يرى هذه الآيات، ولن يتعرف على ما فيها من دلائل على قدرة اللّه، إلا من ألقى سمعه إلى كلمات اللّه، ووعى ما تلفته إليه من آيات اللّه المبثوثة في هذا الكون الرحيب.. وهذا بعض السرّ في أن جاءت فاصلة الآية: {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} بدلا مما يقتضيه ظاهر النظم، وهو أن تكون الفاصلة هكذا: {لقوم يبصرون} وذلك أن كلمات اللّه، إنما يتلقاها المتلقون عن طريق السّمع، وأن هذه الآيات هى: التي إذا صادفت أذنا واعية، كشفت الطريق إلى اللّه.
قوله تعالى: {قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ}.
هذا هو ما يقوله المشركون عن اللّه: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً}.
وهو الذي أشار إليه قوله تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ}.
وكأنه بهذا إجابة عن سؤال أو تساؤل هو: ما هذا القول الذي يقوله المشركون فيحزن النبىّ؟ فكان الجواب: {قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً}.
وقد تأخر الجواب عن هذا السؤال، فجاء بعد تلك الآيات التي عرضت بعض مظاهر قدرة اللّه، وأنه سبحانه له العزة جميعا، وأنه جل شأنه، له ملك السموات والأرض ومن فيهن، وأنه سبحانه هو الذي أقام هذا الوجود على ذلك النظام المحكم البديع، فجعل الليل سكنا، وجعل النهار مبصرا.
وكان هذا العرض هو الرد الذي سبق هذه الدعوى الباطلة ليدحضها قبل أن تتلفظ بها الأفواه، وليقتلها في مهدها قبل أن ترى وجه الحياة.
وهكذا الباطل.. إنه شيء منكر، يجب أن يموت بين يدى أهله، حتى لا يقع المكروه منه على أحد غيرهم.. وإن من الحكمة أن يدفع الشر قبل وقوعه، فذلك أهون وأيسر، في الخلاص من بلواه.. فإذا وقع كان منكرا، يجب على المؤمنين دفعه بكل قوة ممكنة لديهم.
وفى قوله تعالى: {سبحانه} تنزيه للّه، وتمجيد له، واستبعاد لأن يكون له صاحبة أو ولد.. إذ لا يطلب المرء الصاحب أو الولد إلا ليكمل نقصا فيه، واللّه سبحانه وتعالى، هو الكمال المطلق.. فكيف يكون له ولد، أو تكون له صاحبه؟ {هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ}.
{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً}.
وفى قوله تعالى: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ}؟
يجوز أن يكون ذلك على سبيل الاستفهام الإنكارى، والتقدير:
أأن عندكم من سلطان بهذا؟ أتقولون على اللّه ما لا تعلمون؟
ويجوز أن يكون أسلوبا خبريا وتكون {إن} نافية، والتقدير: ما عندكم من سلطان بهذا، أتقولون على اللّه ما لا تعلمون.
والمراد بالسلطان هنا: الحجة والبرهان.
وليس للمشركين على تلك القولة المنكرة من حجة ولا برهان، وإنما حجتهم أوهام وخيالات وظنون.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ}.
هو حكم على تلك القولة المنكرة التي قالها المشركون إذ قالوا: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} فهذا القول افتراء وكذب على اللّه.. وهؤلاء الذين يفترون على اللّه الكذب، قد ضلّ سعيهم، فهم الخاسرون، في أي متّجه يتجهون إليه، ولن يفلحوا أبدا.. وما يقع لهم في هذه الدنيا من زحرفها ومتاعها، هو متاع قليل، وظلّ زائل.. ثم يرجعون إلى اللّه.. وهناك يلقون جزاء ما كانوا فيه من ضلال، وما افتروه من مفتريات {نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ} فكفرهم باللّه، وافتراؤهم على اللّه، هو الذي أوردهم هذا المورد الوبيل، وألقى بهم في أفواه الجحيم.. {وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.


{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)}.
التفسير:
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن ما ذكر في الآيات السابقة عليها، كان عرضا لمقولات المشركين، المنكرة، في اللّه، وافترائهم الكذب على اللّه بنسبة الولد إليه.. فهم آثمون ظالمون، واقعون في معرض عذاب اللّه ونقمته.. فناسب أن يذكّر هؤلاء الآثمون المشركون بما أخذ اللّه به الظالمين قبلهم من نكال وبلاء. ليكون لهم في ذلك عبرة، إن كانت فيهم بقية من عقل وإدراك.
قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ}.
كبر عليكم مقامى: أي شق عليكم احتماله، وأصبح أكبر مما تطيقون.
فضقتم بي ذرعا، وثقل عليكم وجودى بينكم.
أجمعوا أمركم: أي اجتمعوا على رأى واحد، في الموقف الذي تقفونه منّى.. يقال أجمع أمره على كذا، أي قرّ رأيه فيه على قرار، بعد أن كان الرأى فيه مشتتا متفرقا.. يقول الشاعر:
أجمعوا أمرهم عشاء فلما *** أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
من مناد ومن مجيب ومن *** تصهال خيل خلال ذاك رغاء
أي أنهم باتوا على نية السفر في الصباح، وأجمعوا أمرهم عليه.
{اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ}: أي وجهوا حكمكم إلىّ، ولا تنظرون، أي لا تؤخروا أخذى بهذا القضاء الذي قضيتموه فى.. ومنه قوله تعالى: {وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [66: الحجر] أي وجهنا إليه ذلك الأمر، وأعلمناه به.. وقرئ: {افضوا إلى} بالفاء.
أي أقبلوا إلى بما حكمتم به، وأجمعتم أمركم عليه.
{ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} الغمة، ما عمّ من الأمر وخفى، ولا يعرف وجهه.. ومنه الغمّة، لما يغتم له الإنسان مما يسوؤه، ومنه الغمام وهو السحاب الذي يكسو وجه السماء، ويظلل الأرض، ويحجب عنها ضوء الشمس.
والمعنى: أن نوحا عليه السلام، بعد أن استيأس من قومه، ولم يجد سبيلا إلى إصلاح أمرهم وتقويم زيغهم، بعد أن لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، جاءهم- وقد أجمع أمره على أن يدعهم وما هم فيه، ليلقوا المصير الذي أنذرهم من اللّه به- جاءهم ليطلب إليهم أن يقولوا كلمتهم الأخيرة الفاصلة في هذا الموقف، الذي بينهم وبينه.. فقال لهم:
{يا قَوْمِ.. إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} أي إن كنتم قد استثقلتم طول حياتى معكم، وكثرة تذكيرى لكم بآيات اللّه، ودعوتكم إلى الإيمان به، فأنا منصرف عنكم، متوكلا على اللّه، معتمدا عليه.
{فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ} أي هاتوا رأيكم الذي تلتقون عنده، أنتم وشركاؤكم الذين تعبدونهم من دون اللّه.. {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ}، ثم أعلمونى بما أجمعتم عليه من أمر. وإن بدا لكم أن ترجمونى.. كما يتهامس بذلك بعضكم، ويتنادى به سفهاؤكم. وهذا ما حكاه القرآن الكريم عنهم في قوله تعالى: {قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [116:
الشعراء]- إن بدا لكم ذلك فاجعلوه رأيا واحدا لكم، بعد أن تأخذوا رأى شركائكم، وليكن هذا الرأى واضحا صريحا، لا خفاء فيه، ولا تخافت ولا تهامس.. ثم افعلوا بي بعد هذا ما بدا لكم.. فإنى متوكل على اللّه، معتصم به.
وقد قدم التوكل على اللّه قبل أن يدعوهم إلى لقائه، ومواجهته بما يجتمع هو الكلمة الأخيرة من نوح إلى قومه.. وأنهم إن تولّوا عنه، وأبوا أن يأخذوا منه ما يمد به إليهم يده، فإنه لن يضارّ بهذا، لأنه لم يطلب على ما يقدم لهم أجرا، حتى إذا لم يأخذوه منه، فإنه لا ينال ذلك الأجر.. إنه لا يطلب منهم أجرا، وإنما يأخذ أجره من اللّه، وهو أجر عظيم، يرجح بكل ما يملكون ومالا يملكون من هذه الدنيا.. إنه ثواب اللّه، ورحمته ورضوانه: {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [32: الزخرف].. فإن توليتم فهذا شأنكم، ولا سلطان لى عليكم، ولا خير يفوتنى من إعراضكم عنى.. أما أنا فعلى ما أمرنى اللّه به، وهو أن أكون أول المسلمين، الذين أسلموا وجههم للّه، وآمنوا به، وأخلصوا العبادة له وحده.
وأوّلية نوح للمسلمين.. هى أولية بالإضافة إلى مجتمعه الذي كان فيه، فهو أولهم إسلاما للّه.. إذ كان هو الرسول الذي حمل رسالة الإسلام إليهم، وأول من آمن بها منهم.
قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا.. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}.
تلك هى خاتمة ما بين نوح وقومه.. لقد كذبوه، وتولوا عنه، فوقع بهم ما أنذرهم به من قبل، وأغرقهم اللّه بالطوفان، ونجّى نوحا ومن معه، وجعل هؤلاء الذين نجوا، خلائف في الأرض من بعدهم.. إذ كانوا هم البقية الباقية من هؤلاء القوم الهالكين.
وقدم هنا نجاة نوح ومن معه، ووراثتهم الأرض من بعد قومهم الهالكين- قدّم ذلك على هلاك القوم، خلافا للظاهر الذي يقضى به قوله تعالى {فكذبوه} إذ المتوقع هنا هو الإجابة على هذا السؤال: ماذا كان جزاؤهم إذ كذبوه؟ وهذا سؤال يسأله المؤمنون الذين ينتظرون ما يحل بالمكذبين، فكان الجواب المنتظر هو {فأغرقناهم} ولكن الإجابة جاءت على سؤال يسأله الذين يكذبون بآيات اللّه، ويحادّون رسل اللّه.. فيقولون: وماذا جرى لنوح والمؤمنين بعد أن كذّبه قومه، وأبعدوه من بينهم؟ فجاء الجواب: لقد نصره اللّه ومن معه، ونجاهم، وأورثهم أرض القوم المكذبين وديارهم.. فموتوا بغيظكم أيها المكذبون، فإن رسل اللّه وأولياءهم المنصورون، وهم الفائزون المفلحون.
أما المكذبون فلهم الويل والخزي في الدنيا والآخرة.
وفى قوله تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} إلفات للمؤمنين والمكذبين جميعا، إلى ما حل بهؤلاء المنذرين الذين أنذرهم نوح، وخوفهم عذاب اللّه ونقمته، فأبوا أن يسمعوا له، وأن يطلبوا النجاة لأنفسهم، وأن يمسكوا بحبل الإيمان باللّه، وأن يركبوا فلك النجاة بالاعتصام به.. فهلكوا.
وتلك هى عاقبة كل مكذب برسل اللّه، مجانب لهم، مخالف لدعوتهم التي يدعونهم إليها.. فليسمع مشركو قريش هذا، ولينتظروا ما سيحل بهم إذا هم لم يستجيبوا لرسول اللّه، ولم يأخذوا معه السبيل إلى اللّه.
قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ}.
وليس نوح وحده هو الذي دعا دعوة الحقّ، وحمل رسالة السماء بالهدى والإيمان إلى عباد اللّه، بل هناك رسل كثيرون، جاءوا إلى أقوامهم بما جاء به نوح.. يحملون آيات بينات من عند اللّه، ولكن الناس هم الناس، والقوم هم القوم، {فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ}.
فلم يستجيبوا للرسل، ولم يأخذوا بالهدى الذي معهم، ولم يخلوا قلوبهم من الضلال الذي انعقد عليها وسكن فيها.. {كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} أي نختم عليها، فلا يدخل إليها شعاع من نور الحق، ولا يطلع عليها صبح اليقين.. إنها في ظلام دامس دائم أبدا.. وفى هذا تهديد لمشركى قريش، إذ هم في معرض أن يؤخذوا بما أخذ به قوم نوح، فقد طبع اللّه على قلوبهم مثل ما طبع على قلوب قوم نوح من قبلهم.
وفى قوله تعالى: {فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ}.
إشارتان:
الإشارة الأولى: أن هؤلاء المكذبين الضالين لم يكونوا ليؤمنوا أبدا، ولو جاءتهم كل آية.. وهذا هو السر في اختلاف النظم باستعمال فعل المستقبل، ليؤمنوا، وكان ظاهر النظم يقضى بأن يجىء الفعل ماضيا، هكذا: فما آمنوا، ليتّسق مع قوله تعالى {ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ} فما آمنوا أو فلم يؤمنوا.. ولكن جاء النظم القرآنى: {فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا} ليدل على عدم توقع الإيمان منهم مستقبلا، ثم ليتسع الفعل المضارع لقبول لام الجحود {ليؤمنوا}.
ليؤكد عدم توقع الإمكان منهم بحال أبدا.
والإشارة الثانية: هى في قوله تعالى: {بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ}.
فالذى كذبوا به من قبل، هو الإيمان باللّه، إذ كانوا قبل أن تأتيهم الرسل منكرين للّه، مكذبين بوجوده.. وقد انعقدت قلوبهم على هذا، فلم يكن لدعوة الرسل لهم بالإيمان مجال للعمل في هذه القلوب المغلقة، التي جمدت على ما انطبع فيها من ضلال وكفر.
وفى هذا تسفيه لأولئك الذين تجمّدوا على أوضاعهم التي هم فيها، ولا يتحولون عنها، ولو كانت ممسكة بهم على مراتع الجهل والضلال، وفى منازل الذلة والهوان.. وليس ذلك شأن الإنسان الذي يحمل في كيانه عينا تنظر، وأذنا تسمع، وعقلا يدرك، وقلبا يشعر.. إن شأنه دائما يجب أن يكون مستقبلا للحياة لا مدبرا عنها، متعاملا معها، لا مستسلما لها.. فإذا جاءت دعوة جديدة- أيا كانت- لم يكن من الإنصاف لإنسانيته أن يغمض عينيه عنها، ويصم أذنيه دونها، ويحول بين عقله وقلبه أن يتصلا بها، ويتعرفا عليها.
بل إن عليه أن يستمع إلى تلك الدعوة وأن ينظر في وجهها، فإن كانت دعوة خير استجاب لها، وانتفع بها، وجنى الثمر الطيب منها، وإلّا توقّاها، وأخذ حذره منها.. وبهذا يكون الإنسان دائما في ميدان الحياة، مشاركا في معاركها، آخذا بحظه من مغانمها.. أما إن أغلق كيانه على ما هو فيه، فلم يقبل خيرا، أو يدفع شرا، ظل على حال من الطفولة، لا يتحول عنه، وظلت الإنسانية- إن أخذت مأخذه- واقفة حيث هى، لا تتحرك خطوة إلى الإمام.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8